قوة الدولار.. هل تكبح التضخم؟
أدى رفع مجلس الاحتياطي الاتحادي لأسعار الفائدة إلى بلوغ الدولار أعلى مستوى منذ عقود، وقدم هذا صفقات مغرية للسياح الأميركيين في أوروبا وآسيا، وأدى إلى تخفيضات في أسعار البضائع المستوردة هنا في البلاد، وضغط على اقتصادات عدد من الشركاء التجاريين للولايات المتحدة. وبلغ الدولار أعلى مستوياته منذ عقود في الأيام القليلة الماضية مقابل عملات رئيسية مثل اليورو والين الياباني، ومن شبه المؤكد أن يواصل الصعود.
ومع ارتفاع أسعار المستهلك 9.1% خلال العام الماضي، في أسرع وتيرة منذ عام 1981، أشار الاحتياطي الاتحادي إلى أن هناك زيادات إضافية قادمة في الأسعار، بدءاً من 27 يوليو. وقوة الدولار تمثل دليلاً على أن حملة الاحتياطي الاتحادي للتصدي للتضخم بدأت تكتسب زخماً، على الرغم من استمرار ارتفاع الأسعار بشكل عام. لكن القصةَ مختلفة في الخارج حيث يجعل ضعفُ العملة في أوروبا والمملكة المتحدة، وهو منتج جانبي لقوة الدولار، مكافحةَ التضخم أكثر صعوبةً.
نظراً لأن سنوات من التضخم المنخفض وأسعار الفائدة المنخفضة أفسحت المجالَ لحقبة أكثر تقلباً، يجري تداول العملات على نطاق أوسع. وقد وجَّهت الحربُ في أوكرانيا التي عصفت بأسواق الغذاء والوقود العالمية ضرباتٍ لأوروبا وبلدان نامية كثيرة أقسى من تلك الضربات التي لاقتها الولايات المتحدة، وهذا يساعد في تفسير تألق الدولار حالياً. والدولار الأكثر قوةً يرهق ميزانيات البلدان التي تعتمد بشكل كبير على واردات النفط التي يتم تسعيرها بالدولار، مثل الهند وكوريا الجنوبية وتايلاند.
ومع ارتفاع الدولار، تتضرر بلدان نامية كثيرة تحتاج إلى دفعات مالية لتغطية مدفوعات ديونها، مثل الإكوادور وتونس. ويعكس تفوق أداء الدولار الذي ارتفع 13٪ هذا العام قوةَ تعافي الولايات المتحدة من الجائحة، والذي كان أسرع مما حدث في أوروبا أو اليابان. ويتجلى هذا في أن مسؤولي الاحتياطي الاتحادي، بعد أن أخطؤوا قراءةَ مؤشرات الأسعار معظم العام الماضي، تأخروا في تعديل موقفهم بشكل أسرع إلى حد ما عن نظرائهم في فرانكفورت وطوكيو. وهذا العام، رفع الاحتياطي الاتحادي أسعارَ الفائدة مرتين 75 نقطةَ أساسٍ إجمالا، ومن المتوقع أن يرفع السعرَ ثلاثة أرباع نقطة مئوية أخرى على الأقل في اجتماعه المقبل.
ومن المتوقع أن يرفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة لأول مرة منذ 11عاماً. من المتوقع أن يظل السعر الأوروبي الرئيس في المنطقة السلبية حتى سبتمبر على الرغم من بلوغ التضخم 8.6% في يونيو. وفي اليابان التي ظل فيها التضخم خاضعاً للسيطرة لفترة طويلة، اختار بنك اليابان (المركزي) في شهر يونيو الماضي الحفاظ على معدله الرئيس عند سالب 0.1%. وذكر مارك تشاندلر، العضو المنتدب لشركة «بانوكوبيرن جلوبال فوركس» الاستشاريةَ أن البنوك المركزية بوغتت بارتفاع التضخم وتستجيب له الآن بسرعات متفاوتة. ومضى يقول: «الولايات المتحدة تنفذ أكثرَ عمليات التضييق جرأةً منذ عام 1980، بينما لم يتحرك الأوروبيون واليابانيون».
لكن قوةَ الدولار ليست كلها أخبار سعيدة للولايات المتحدة. فقد أصبحت المنتجات الأميركية أكثر كلفةً للمستهلكين في الخارج الذين تفقد عملاتُهم قيمتَها مقابل الدولار. وهذا يضر كبارَ المصدّرين مثل بوينج، أكبر شركة لتصنيع الطائرات التجارية في العالم. والشركات الأميركية العملاقة تشهد انخفاضاً في أرباحها الخارجية حين يتم تحويلها إلى دولارات، مما يزيد من تآكل الدعم لقيم الأسهم المتدهورة. وخفضت مايكروسوفت في شهر يونيو الماضي توقعاتِها للربع الحالي قائلةً إن الدولار القوي سيقلص أرباحَها المتوقعةَ نحو 250 مليون دولار. والشركات الأميركية تستمد نحو 30% من إجمالي أرباحها من العمليات الخارجية، وفقاً لمورجان ستانلي.
وأرباحُ الشركات متعددة الجنسيات التي مقرها الولايات المتحدة تضررت نتيجةَ ارتفاعِ الدولار، وقد يتسبب هذا التضرر في خفض الإنفاق في مجالات أخرى، وبالتالي المساهمة في التباطؤ الاقتصادي الذي يحاول الاحتياطي الاتحادي تنظيمه. وتحاول بعض البنوك المركزية السيرَ في ركاب الاحتياطي الاتحادي. وقد فاجأ بنك كندا، مؤخراً، الأسواقَ برفع سعر الإقراض الرئيس بنقطة مئوية كاملة ليصل إلى 2.5%، وأشار إلى احتمال فرض زيادات أخرى. ورفع الاحتياطي النيوزيلندي سعر الفائدة إلى المستوى نفسه، في أعلى معدل منذ أكثر من ست سنوات.
وجاءت هذه التحركات بعد يوم واحد من قيام البنك المركزي الكوري الجنوبي برفع أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية، في أكبر تحرك منذ عام 1999. وتمثل التداعياتُ الماليةُ تحدياً خاصاً لصانعي السياسة الأوروبيين. وضعف اليورو يجعل التضخمَ أسوأَ بسبب زيادة كلفة السلع المستوردة. وأي فائدة تحصل عليها الصادرات الألمانية نتيجة العملة الأضعف يذهب بها ارتفاع كلفة الطاقة بسبب فقدان الإمدادات الروسية الرخيصة. فقد سجلت ألمانيا الشهر الماضي أول عجز تجاري منذ 30 عاماً.
وأدت القيود التي فرضتها روسيا على شحنات الغاز الطبيعي إلى أوروبا نتيجة المواجهة في أوكرانيا إلى زيادة كلفة السلع الألمانية، كما أدى التباطؤ الاقتصادي الصيني إلى خفض الطلب. وفي أماكن أخرى، قد يكون التوتر أكثر حدةً، فقد أعلن صندوق النقد الدولي مؤخراً أنه توصَّل إلى اتفاق على مستوى الموظفين مع باكستان بشأن خطة إنقاذ بقيمة 1.2 مليار دولار تستهدف مساعدةَ الحكومة لمعالجة سوء الوضع الاقتصادي، لكن سيتعين خفض دعم الطاقة في المقابل، على الرغم من بلوغ التضخم 20%. وتتفاوض وكالة الإقراض العالمية أيضا مع دول أخرى مثقلة بالديون مثل تونس، التي قد تنفجر فيها المشكلات الاقتصادية في صورة اضطرابات اجتماعية.
ويتغلب أداء الدولار على المخاوف التي ظهرت في وقت سابق من هذا العام والتي مفادها أن جرأة إدارة بايدن في فرض عقوبات مالية ضد روسيا سيشجع الدول الأخرى على تقليل اعتمادها على الدولار. لكن الدولار ظل هو العملة العالمية الأكثر انتشاراً، ممثلا ما يقرب من 59% من إجمالي احتياطيات البنوك المركزية، وفقاً لصندوق النقد الدولي.
*كاتب أميركي متخصص في شؤون الاقتصاد.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»